الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فخرجت تتبع عيسى وقد آمنت به، فأتى عيسى ومعه سبعة وعشرون من الحواريين في بيت وأحاطوا بهم، فدخلوا عليهم وقد صوّرهم الله على صورة عيسى، فقالوا: قد سحرتمونا؟ لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعًا، فقال عيسى لأصحابه: من يشتري منكم نفسه بالجنة؟ فقال رجل من القوم: أنا. فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فمن ثم شُبِّه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى وصلبوه، فظنت النصارى مثل ذلك، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.فبلغ المرأة أن عيسى قد قتل وصلب، فجاءت حتى بنت مسجدًا إلى أصل شجرته، فجعلت تصلي وتبكي على عيسى، فسمعت صوتًا من فوقها صوت عيسى لا تنكره: أي فلانة إنهم والله ما قتلوني وما صلبوني ولكن شُبِّه لهم، وآية ذلك أن الحواريين يجتمعون الليلة في بيتك، فيفترقون اثنتي عشرة فرقة كل فرقة منهم تدعو قومًا إلى دين الله، فلما أمسوا اجتمعوا في بيتها، فقالت لهم: إني سمعت الليلة شيئًا أحدِّثكم به وعسى أن تكذبوني وهو الحق، سمعت صوت عيسى وهو يقول: يا فلانة إني والله ما قتلت ولا صلبت، وآية ذلك أنكم تجتمعون الليلة في بيتي، فتفترقون اثنتي عشرة فرقة، فقالوا: إن الذي سمعت كما سمعت، فإن عيسى لم يقتل ولم يصلب إنما قتل فلان وصلب، وما اجتمعنا في بيتك إلا لما قال، نريد أن نخرج دعاة في الأرض، فكان ممن توجه إلى الروم نسطور وصاحبان له، فأما صاحباه فخرجا، وأما نسطور فحبسته حاجة له فقال لهما: ارفقا ولا تخرقا ولا تستبطئاني في شيء، فلما قدما الكورة التي أرادا قدما في يوم عيدهم، وقد برز ملكهم وبرز معه أهل مملكته، فأتاه الرجلان فقاما بين يديه، فقالا له: اتق الله فإنكم تعملون بمعاصي الله وتنتهكون حرم الله مع ما شاء الله أن يقولا.قال: فأسف الملك وهمَّ بقتلهما، فقام إليه نفر من أهل مملكته فقالوا: إن هذا يوم لا تهرق فيه دما، وقد ظفرت بصاحبيك فإن أحببت أن تحبسهما حتى يمضي عيدنا ثم ترى فيهما رأيك فعلت، فأمر بحبسهما ثم ضُرِب على أذنه بالنسيان لهما، حتى قدم نسطور فسأل عنهما فأخبر بشأنهما وإنهما محبوسان في السجن، فدخل عليهما فقال: ألم أقل لكما ارفقا ولا تخرقا ولا تستبطئاني في شيء، هل تدريان ما مثلكما؟ مثلكما مثل امرأة لم تصب ولدًا حتى دخلت في السن فأصابت بعدما دخلت في السن ولدًا، فأحبت أن تعجل شبابه لتنتفع به، فحملت على معدته ما لا تطيق فقتلته، ثم قال لهما: والآن فلا تستبطئاني في شيء، ثم خرج فانطلق حتى أتى باب الملك، وكان إذا جلس الناس وضع سريره وجلس الناس سمطًا بين يديه، وكانوا إذا ابتلوا بحلال أو حرام رفعوا له، فنظر فيه ثم سأل عنه من يليه في مجلسه، وسأل الناس بعضهم بعضًا حتى تنتهي المسألة إلى أقصى المجلس، وجاء نسطور حتى جلس في أقصى القوم، فلما ردوا على الملك جواب من أجابه، وردوا عليه جواب نسطور فسمع بشيء عليه نور وحلا في مسامعه فقال: من صاحب هذا القول؟ فقيل: الرجل الذي في أقصى القوم. فقال: عليَّ به. فقال: أنت القائل كذا وكذا؟ قال: نعم. قال: فما تقول في كذا وكذا؟ قال: كذا وكذا. فجعل لا يسأله عن شيء إلا فسَّره له. فقال: عندك هذا العلم وأنت تجلس في آخر القوم؟ ضعوا له عند سريري مجلسًا؟ ثم قال: إن أتاك ابني فلا تقم له عنه، ثم أقبل على نسطور وترك الناس، فلما عرف أن منزلته قد تثبتت قال: لأزورنه.فقال: أيها الملك رجل بعيد الدار بعيد الضيعة، فإن أحببت أن تقضي حاجتك مني وتأذن لي فأنصرف إلى أهلي. فقال: يا نسطور ليس إلى ذلك سبيل، فإن أحببت أن تحمل أهلك إلينا فلك المواساة، وإن أحببت أن تأخذ من بيت المال حاجتك فتبعث به إلى أهلك فعلت، فسكت نسطور.ثم تحيَّن يومًا فمات لهم فيه ميت فقال: أيها الملك بلغني أن رجلين أتياك يعيبان دينك؟ قال: فذكرهما فأرسل إليهما، فقال: يا نسطور أنت حكم بيني وبينهما ما قلت من شيء رضيت.قال: نعم أيها الملك، هذا ميت قد مات في بني إسرائيل فمرهما حتى يَدْعُوَا ربهما فيحييه لهما ففي ذلك آية بيِّنة، قال: فأتى بالميت فوضع عنده، فقاما وتوضآ ودعوا ربهما فرد عليه روحه وتكلم، فقال: أيها الملك إن في هذه لآية بينة، ولكن مرهما بغير ما أجمع أهل مملكتك، ثم قل لآلهتك، فإن كانت تقدر أن تضر هذين فليس أمرهما بشيء، وإن كان هذان يقدران أن يضرا آلهتك فأمرهما قوي، فجمع الملك أهل مملكته ودخل البيت الذي فيه الآلهة، فخر ساجدًا هو ومن معه من أهل مملكته وخرَّ نسطور ساجدًا، وقال: اللهم إني أسجد لك وأكيد هذه الآلهة أن تعبد من دونك، ثم رفع الملك رأسه فقال: إن هذين يريدان أن يبدلا دينكم ويدعوا إلى إله غيركم، فافقأوا أعينهما أو اجذموهما أو شلوهما، فلم تردَّ عليه الآلهة شيئًا، وقد كان نسطور أمر صاحبيه أن يحملا معهما فأسًا، فقال: أيها الملك قل لهذين أيقدران أن يضرا آلهتك؟ قال: أتقدران على أن تضرا آلهتنا؟ قالا: خلِّ بيننا وبينها، فأقبلا عليها فكسراها، فقال نسطور: أما أنا فآمنت برب هذين، وقال الملك: وأنا آمنت برب هذين، وقال جميع الناس: آمنا برب هذين، فقال نسطور لصاحبيه: هكذا الرفق.وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وكان الله عزيزًا حكيمًا} قال: معنى ذلك أنه كذلك.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس. أن يهوديًا قال له: إنكم تزعمون أن الله كان عزيزًا حكيمًا فكيف هو اليوم؟ قال ابن عباس: إنه كان من نفسه عزيزًا حكيمًا. اهـ.
.فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {وبكُفْرهِمْ}: فيه وجهان:أحدهما: أنه معطوفٌ على مَا في قوله: {فَبِمَا نَقْضهِمْ} فيكونُ متعلِّقًا بما تعلَّق به الأول.الثاني: أنه عطفٌ على بِكُفرِهِمْ الذي بعد طَبَعَ، وقد أوضح الزمخشريُّ ذلك غايةَ الإيضاح، واعترضَ وأجابَ بأحسنِ جواب، فقال: فإنْ قلْتَ: علامَ عَطَفَ قوله وَبكُفْرِهِمْ؟ قلتُ: الوجهُ أن يُعْطَفَ على فَبِمَا نَقْضِهمْ، ويُجْعَلَ قولُه: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} كلامًا يَتْبَع قوله: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} على وجه الاستطراد، ويجوزُ عطفه على ما يليه من قوله: {بِكُفْرِهِمْ}.قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَانًا عظيمًا} في نصب {بُهْتَانًا} خمسةُ أوجه:أظهرُها: أنه مفعولٌ به؛ فإنه مُضَمَّنٌ معنى كَلاَم؛ نحو: قُلْتُ خُطْبَةٌ وشِعْرًا.الثاني: أنه منصوبٌ على نوع المصدر، كقولهم: قَعَدَ القُرْفُصَاءَ يعني: أن القول يكون بُهتانًا وغير بهتان.الثالث: أن ينتصبَ نعتًا لمصدر محذوف، أي: قولًا بُهْتَانًا، وهو قريبٌ من معنى الأول.الرابع: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظه، أي: بَهَتُوا بُهْتَانًا.الخامس: أنه حال من الضميرِ المجْرور في قولهم، أي: مُبَاهِتينَ، وجازَ مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنه فاعلٌ معنًى، والتقديرُ: وبأن قالوا ذلك مباهتين.قوله: {وَقَوْلُهُم} عَطْف على {وَكُفْرِهِم}، وكُسِرت إنَّ لأنَّها مُبْتَدأ بعد القَوْلِ وفَتْحهَا لُغَة.وعِيسَى بدلٌ من المَسِيح، أو عطفُ بيان، وكذلك ابن مَرْيَم، ويجوز أن يكونَ صفةً أيضًا، وأجاز أبو البقاء في رَسُول الله هذه الأوجه الثلاثة، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليلٌ، وقد يُقال: إنَّ رَسُول الله جرَى مَجْرَى الجوامدِ، وأجاز فيه أن يَنْتصبَ بإضمار أعني، ولا حاجةَ إليه.قوله: {شُبِّهَ لَهُمْ}: {شُبِّهَ} مبني للمفعول، وفيه وجهان:أحدهما: أنه مسند للجارِّ بعده؛ كقولك: خُيِّلَ إليه، ولُبِّسَ علَيْهِ [كأنَّه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه].والثاني: أنه مسندٌ لضمير المقْتُول الَّذِي دَلَّ عليه قولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا} أي: ولكن شُبِّه لهم من قتلُوه، فإن قيل: لِمَ لا يَجُوز أن يعودَ على المسيحِ؟ فالجوابُ: أن المسيحَ مشبَّه به [لا مشبَّه].قوله: {لَفِي شَكٍّ مِّنْه}: {مِنْهُ} في محلِّ جرِ صفة لـ {شَكٍّ} يتعلَّقُ بمحذوف، ولا يجوز أن تتعلَّق فَضْلةٌ بنفس {شَكٍّ}؛ لأن الشكَّ إنما يتعدَّى بفي لا بمِنْ، ولا يقال: إنَّ مِنْ بمعنى في؛ فإن ذلك قولٌ مرجوحٌ، ولا ضرورة لنا به هنا.وقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} يجوز في {مِنْ عِلْمٍ} وجهان:أحدهما: أنه مرفوع بالفاعليَّة، والعاملُ أحد الجارَّيْنِ: إمَّا {لَهُمْ} وإما {به}، وإذا جُعِلَ أحدُهما رافعًا له، تعلَّق الآخرُ بما تعلَّق به الرافِعُ من الاستقرار المقدَّر، و{مِنْ} زائدةٌ لوجودِ شرطي الزيادة.والوجه الثاني: أن يكون {مِنْ عِلْمٍ} مبتدأ زيدت فيه {مِنْ} أيضًا وفي الخبر احتمالان:أحدهما: أن يكونَ {لَهُم} فيكون: {به}: إمَّا حالًا من الضمير المستكنِّ في الخبر، والعاملُ فيها الاستقرارُ المقدَّر، وإمَّا حالًا من {عِلْمٍ}، وإنْ كان نكرةً؛ لتقدُّمها عليه، ولاعتمادِه على نَفْي، فإن قيل: يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرورِ بالحرفِ عليه، وهو ضرورةٌ، لا يجوزُ في سَعة الكَلاَم.فالجوابُ: أنَّالآنسَلِّم ذلك، بل نقل أبو البقاء وغيره؛ أنَّ مذْهَب أكثر البصريين جوازُ ذلك، ولئِنْ سلَّمْنَا أنه لا يجوز إلا ضرورةً، لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جرٍّ زائدٍ، والزائدٌ في حكْم المُطَّرَح، وأمَّا أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيانِ، أي: أعْني به، ذكره أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، ولا يجوزُ أن يتعلق بنفس {عِلْم}؛ لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه.والاحتمال الثاني: أن يكون {به} هو الخبر، و{لَهُمْ} متعلق بالاستقرار؛ كما تقدم، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنةً مخصَّصة كالتي في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].وهذه الجملةُ المنفية تحتمل ثلاثة أوجه: الجرّ على أنها صفةٌ ثانية لـ {شَكٍّ} أي: غير معلوم.الثاني: النصب على الحال من {شَكٍّ}، وجازَ ذلك، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِه بالوصف بقوله: {مِنْه}.الثالث: الاستئنافُ، ذكره أبو البقاء، وهو بعيدٌ.قوله: {إِلاَّ اتباع الظن} في هذا الاستثناء قولان:أصحهما: ولم يذكر الجمهورُ غيره: أنه منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، [قال شهاب الدين:]، ولم يُقْرأ فيما علمتُ إلا بنصبِ {اتِّباع} على أصل الاستثناء المنقطِعِ، وهي لغةُ الحجاز، ويجوزُ في تميم الإبدالُ من {عِلْم} لفظًا، فيجرُّ، أو على الموضع، فيُرفَعُ؛ لأنه مرفوع المحلِّ؛ كما قدَّمته لك، و{مِنْ} زائدةٌ فيه.والثاني- قال ابن عطية-: أنه متصِلٌ، قال: إذ العلْمُ والظنُّ يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين، يقول الظانُّ على طريق التجوُّز: عِلْمِي في هذا الأمْرِ كَذَا إنما يريدُ ظَنِّي انتهى، وهذا غيرُ موافقٍ عليه؛ لأن الظنَّ ما ترجَّحَ فيه أحد الطرفَيْن، واليقينُ ما جُزِم فيه بأحدهما، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظنِّ ليس من جنس العلم، بل هو غيره، فهو منقطع أيضًا، أي: ولكنَّ اتباع الظنِّ حاصلٌ لهم.ويُمْكِنُ أن يُجَابَ شهاب الدِّين عما رَدَّ به عَلَى ابن عَطِيَّة: بأن العِلْمَ قد يُطْلَقُ على الظَّنِّ، فيكون من جِنْسِهِ؛ كقوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] وأراد: يَعْلَمُون، وقوله: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} [يوسف: 110] أي: تَيَقَّنُوا، وقوله: {وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] وإذا كان يَصِحُّ إطلاقُهُ عليه، صار الاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا.قوله: {يَقينًا} فيه خمسة أوجه:أحدها: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قتلًا يقينًا.الثاني: أنه مصدر من معنى العامل قبله؛ كما تقدم مجازه؛ لأنه في معناه، أي: وما تيقَّنوه يقينًا.الثالث: أنه حال من فاعل {قَتَلُوهُ}، أي: وما قتلوه متيقنين لقتله.الرابع: أنه منصوبٌ بفعلٍ من لفظه حُذِفَ للدلالة عليه، أي: ما تيقَّنوه يقينًا، ويكون مؤكِّدًا لمضمون الجملةِ المنفيَّة قبله، وقدَّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتًا، فقال: تقديره: تيقَّنوا ذلك يَقِينًا، وفيه نظر.الخامس- ويُنْقَل عن أبي بَكْر بن الأنباريِّ-: أنه منصوبٌ بما بعد {بَلْ} من قوله: {رَفَعَهُ الله}، وأن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، أي: بَلْ رفعه الله إليه يقينًا، وهذا قد نَصَّ الخليلُ، فمَنْ دونه على منعه، أي: أن {بَلْ} لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ فينبغي ألا يَصِحَّ عنه، وقوله: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} رَدٌّ لما ادَّعَوْهُ مِنْ قتله وصلبه، والضمير في {إلَيْه} عائدٌ على {الله} على حَذْفِ مضاف، أي: إلى أسمائه ومحلِّ أمره ونهيه. اهـ.
|